فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: آية 260]:

{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}.
{أَرِنِي} بصرني، فإن قلت: كيف قال له {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا؟
قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. وبَلى إيجاب لما بعد النفي، معناه بلى آمنت {وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. فإن قلت: بم تعلقت اللام في: {لِيَطْمَئِنَّ}؟ قلت: بمحذوف تقديره: ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} قيل طاوسا وديكا وغرابا وحمامة {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} بضم الصاد وكسرها بمعنى فأملهنّ واضممهنّ إليك قال:
وَلَكِنَّ أطْرَافَ الرِّماحِ تَصُورُهَا

وقال:
وَفَرْعٍ يَصيرُ الْجِيدَ وَحْفٍ كَأنَّهُ ** عَلَى اللَّيْتِ قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ

وقرأ ابن عباس رضي اللَّه عنه {فصرّهن} بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء، من صره يصره ويصره إذا جمعه، نحو ضره ويضره ويضره. وعنه {فَصُرْهُنَّ} من التصرية وهي الجمع أيضًا {ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} يريد: ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال. والمعنى: على كل جبل من الجبال التي بحضرتك وفي أرضك. وقيل: كانت أربعة أجبل. وعن السدّى: سبعة {ثُمَّ ادْعُهُنَّ} وقل لهن: تعالين بإذن الله: {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن: فان قلت: ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ قلت: ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ولذلك قال: يأتينك سعيًا. وروى أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها، وأن يمسك رءوسها، ثم أمر أن يجعل بأجزائها على الجبال، على كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن اللَّه، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رءوسهن، كل جثة إلى رأسها. وقرئ جزأ بضمتين. وجزّا، بالتشديد. ووجهه أنه خفف بطرح همزته، ثم شدد كما يشدد في الوقف، إجراء للوصل مجرى الوقف.

.[سورة البقرة: آية 261]:

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)}.
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} لابد من حذف مضاف، أي مثل نفقتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة. والمنبت هو اللَّه، ولكن الحبة لما كانت سببا أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل، أن تخرج ساقا يتشعب منها سبع شعب، لكل واحدة سنبلة وهذا التمثيل تصوير للإضعاف، كأنها ماثلة بين عينى الناظر: فإن قلت: كيف صحّ هذا التمثيل والممثل به غير موجود؟ قلت: بل هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الأراضى القوية المقلة فيبلغ حبها هذا المبلغ، ولو لم يوجد لكان صحيحا على سبيل الفرض والتقدير: فإن قلت: هلا قيل: سبع سنبلات، على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال: {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ}؟ قلت: هذا لما قدمت عند قوله: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها {وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق، لتفاوت أحوال المنفقين. أو يضاعف سَبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستوجب ذلك.

.[سورة البقرة: آية 262]:

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}.
المنّ أن يعتدّ على من أحسن إليه بإحسانه، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا له: وكانوا يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. ولبعضهم:
وَإنّ امْرَأً أَسْدَى إلَىَّ صَنِيعَةً ** وَذَكّرَنِيهَا مَرَّةً لَلئِيمُ

وفي نوابغ الكلم: صنوان من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضنّ. وفيها: طعم الآلاء أحلى من المنّ وهي أمرّ من الآلاء مع المنّ. والأذى: أن يتطاول عليه بسبب ما أزال إليه: ومعنى ثم إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى، وأنّ تركهما خير من نفس الإنفاق، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيرًا من الدخول فيه بقوله: {ثُمَّ اسْتَقامُوا}. فإن قلت: أي فرق بين قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} وقوله فيما بعد: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ}؟ قلت: الموصول لم يضمن هاهنا معنى الشرط. وضمنه ثمة. والفرق بينهما من جهة المعنى أنّ الفاء فيها دلالة على أنّ الإنفاق به استحق الأجر، وطرحها عار عن تلك الدلالة. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: فإن قيل: ظاهر هذا اللفظ أنّ مجموع المنّ والأذى يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الآخر، لا يبطل الأجر؟

أجيب: بأنّ الشرط أن لا يوجد واحد منهما دون الآخر لأنّ قوله تعالى: {ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًا} ولا أذى يقتضي أن لا يقع هذا ولا هذا أي: فتبطل لكل واحد منهما إبطالًا. اهـ.

.سؤال: الضمير في قوله: {لاَّ يَقْدِرُونَ} إلى ماذا يرجع؟

فيه قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى معلوم غير مذكور، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان، لأنه زال ذلك التراب وذلك ما كان فيه، فلم يبق لأحد قدرة على الانتفاع بذلك البذر، وهذا يقوي الوجه الثاني في التشبيه الذي ذكره القفال رحمه الله تعالى، وكذا المان والمؤذي والمنافق لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة.
والثاني: أنه عائد إلى قوله: {كالذى يُنفِقُ مَالَهُ} وخرج على هذا المعنى، لأن قوله: {كالذى يُنفِقُ مَالَهُ} إنما أشير به إلى الجنس، والجنس في حكم العام، قال القفال رحمه الله:
وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون ذلك مردودًا على قوله: {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم، فرجع عن الخطاب إلى الغائب، كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ في الفلك وجرين بِهِمُ} [يونس: 22]. اهـ.

.سؤال: فإن قيل: كيف قال تعالى لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق؟

أجيب: بأنه تعالى أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ولأن من والذي يتعاقبان فكأنه قيل كمن ينفق. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

إنما يُحْمَلُ جميلُ المنة من الحق سبحانه، فأمَّا من الخلْق فليس لأحد على غيره مِنَّةَ؛ فإنَّ تحمل المنن من المخلوقين أعظم محنة، وشهود المنة من الله أعظم نعمة، قال قائلهم:
ليس إجلالُكَ الكبار بِذُلِّ ** إنما الذُّلُّ أنْ تُجِلَّ الصِّغَارا

ويقال أفقرُ الخلْق مَنْ ظنَّ نفسَه موسِرًا فيَبِين له إفلاسه، كذلك أقل الخلْق قدرًا من ظن أنه على شيءٍ فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسبه. اهـ.

.من لطائف ابن القيم في الآية:

قال رحمه الله:
تضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة وهذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في أول هذه الرسالة فلا حاجة إلى إعادته وقد يقال إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها إلا أنه ليس في الفظ ما يدل على هذا التقييد والسياق يدل على إبطالها به مطلقا وقد يقال تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان فإن الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله ويجاب عن هذا بجوابين أحدهما أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل وهي حال المرائي والمان المؤذي في أن كل واحد منهما يحبط العمل الثاني أن الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل لأنه فعال من الرؤية التي صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيا وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا ومتراخيا وتراخيه أكثر من مقارنته وقوله كالذي ينفق إما أن يكون المعنى كإبطال الذي ينفق فيكون شبه الإبطال بالإبطال أو المعنى لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق وقوله فمثله أي مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته كمثل صفوان وهو الحجر الأملس وفيه قولان:
أحدهما أنه واحد.
والثاني جمع صفوة عليه تراب فأصابه وابل وهو المطر الشديد فتركه صلدا وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر بالحجر لشدته وصلاته وعدم الانتفاع به وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدا فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله وفيه معنى آخر وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه كما أن تحت التراب حجرا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه فلا ينبت ولا يخرج شيئا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} أوقع موقعًا بديعًا من نظم الكلام تنهال به معانٍ كثيرة فهو بموقعه كان صالحًا لأن يكون حالًا من الذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون مندرجًا في الحالة المشبّهة، وإجراء ضمير كسبوا ضمير جمع لتأويل الذي ينفق بالجماعة، وصالحًا لأن يكون حالًا من مثل صفوان باعتبار أنّه مثل على نحو ما جوّز في قوله تعالى: {أوكصيب من السماء} [البقرة: 19] إذ تقديره فيه كمثل ذوي صيّب فلذلك جاء ضميره بصيغة الجمع رعيًا للمعنى وإن كان لفظ المعاد مفردًا، وصالحًا لأن يجعل استئنافًا بيانيًا لأنّ الكلام الذي قبله يثير سؤال سائل عن مغبة أمر المشبّه، وصالحًا لأن يجعل تذييلًا وفذلكة لضرب المثل فهو عود عن بدء قوله: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] إلى آخر الكلام.
وصالحًا لأن يجعل حالًا من صفوان أي لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا منه وحذف عائد الصلة لأنّه ضمير مجرور بما جرّ به اسم الموصول.
ومعنى {لا يقدرون} لا يستطيعون أن يسترجعوه ولا انتفعوا بثوابه فلم يبق لهم منه شيء.
ويجوز أن يكون المعنى لا يحسنون وضع شيء ممّا كسبوا موضعه، فهم يبذلون ما لهم لغير فائدة تعود عليهم في آجلهم، بدليل قوله: {الله لا يهدي القوم الكافرين}.
والمعنى فتركه صلدًا لا يحصدون منه زرعًا كما في قوله: {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها} [الكهف: 42]. اهـ.